كان الجنرال أوغستو خوسيه رامون بينوشيه أوغارتا المولود في الخامس والعشرين من نوفمبر عام 1915 رئيس الحكومة التشيلية العسكرية منذ العام 1973 وحتى العام 1990 حاكماً عسكرياً مطلقاً، تنسب إليه وإلى عهده الكثير من المفاسد السياسية والمالية، ويتهم بالديكتاتورية، والتعذيب، واستخدام الاغتيال السياسي، والإخفاء، والتشويه وتلك كانت وسائله للتفاهم مع المعارضة.في نوفمبر من العام 1970 وصل الزعيم الاشتراكي سلفادور ألليندي إلى رئاسة تشيلي في انتخابات حرة ومباشرة لم تعجب الولايات المتحدة، ذلك أن أمريكا اللاتينية كانت تمر وقتها بالاشتراكية، والعداء للرأسمالية، لدرجة جعلت الكثير من القسس يتركون وظائفهم الكنسية في معقل الكاثوليكية ويتجهون للاشتراك في الثورة، والتحريض ضد فساد الحكام الرأسماليين المرضي عنهم من الولايات المتحدة، وذلك في فترة المد الاشتراكي العالمي، والحرب الباردة.
اتخذ ألليندي سياسات ضربت مصالح الولايات المتحدة في تشيلي بانتصارها لجانب الفقراء، وميولها الاشتراكية الواضحة.
قررت الولايات المتحدة أن سلفادور ألليندي خطر كبير يتهدد مصالحها، لكنها لم تستطع الطعن والتشكيك في شرعيته كحاكم ذلك لأنه فاز في الانتخابات بطريقة شريفة، لذا قررت إزاحته عن الحكم ، وكان رجلها المختار لهذا هو الجنرال أوغستو بينوشيه قائد الجيش الذي استولى على السلطة في 11 سبتمبر عام 1973، حيث حاصر واقتحم القصر الرئاسي بالدبابات مطالباً سلفادور أليندي بالاستسلام والهروب، لكن ألليندي رفض، وارتدى الوشاح الرئاسي الذي ميز رؤساء تشيلي طوال قرنين من الزمان، ليسقط قتيلاَ في القصر الرئاسي رافضاً التخلي عن حقه الشرعي.
بدأ أوغستو بينوشيه عهده العسكري بقتل الرئيس، وتعليق الدستور، وأعلن المجلس العسكري حاكما لتشيلي واستمر حاكماً سبعة عشر عاماً كان فيها العدو الأول لكل مفكري وكتاب أمريكا اللاتينية. وحرموا الأحزاب السياسية اليسارية التي شكلت تحالف ألليندي الحاكم، منعوا أي نشاط سياسي، ومارسوا الإرهاب السياسي. طاردوا اليساريين في كل أنحاء البلاد، ونتيجة لأفعال المجلس العسكري، قتل أكثر من ثلاثة آلاف تشيلي أو اختفوا، كما عُذب وسُجن أكثر من سبعة وعشرين ألفاً، ونُفي الكثيرون، أو هربوا طالبين اللجوء السياسي، ومنهم السياسية التشيلية إيزابيل ألليندي ابنة سلفادور ألليندي، والروائية التشيلية الأعظم إيزابيل ألليندي ابنة أخيه. وشهد عهده اغتيال الجنرال عمر توريخوس رجل بنما ، والذي كان عائقاً في وجه الهيمنة الأمريكية الشاملة على القناة، وشكل مع مانويل نورييجا الحاكم البديل لـ بنما ورافاييل ليونداس تروخيليو حاكم الدومينيكان أسوأ وجوه الديكتاتورية التابعة لأمريكا في عالم شهد ديكتاتوريات عديدة، كـ سالازار في البرتغال، وفرانكو في إسبانيا، وتشاوشيسكو في رومانيا.في العام 1980 أُقر دستور جديد للبلاد، واستفتاء بمرشح واحد للسلطة، لكن البلاد التي كانت تمور بالكراهية لنظام بينوشيه، والضغوط الدولية المتزايدة، أعادت القاعدة المدنية إلى البلاد، منذ العام 1988، حين رفض الكونغرس إقرار دستور يتيح لبينوشيه حكم البلاد طوال حياته وفضل بينوشيه - الذي كان لا يزال محتفظاً بنفوذه الكبير سياسياً وعسكرياً - أن يتنازل عن رئاسة البلاد لباتريسيو أيلوين الرئيس المنتخب ديموقراطياً عام 1989، وذلك في العام 1990، لكنه حافظ على منصبه كقائد للجيش حتى 1998، حين أخذ مقعداً في مجلس الشيوخ طبقاً لتعديلات دستورية أقرت في 1980.
غير أن بينوشيه لم ينته في سجن أمريكي مداناً بالإتجار بالمخدرات كما انتهى نوريجا، اللعبة الأمريكية هو الآخر، ولا انتهى مقتولاً على يد شعبه كما انتهى ليونداس تروخيليو – رغم أنه تعرض لمحاولات اغتيال -، بل انتهى مخلوعاً على يد شعبه الذي خلعه رغم قوة نظامه العسكري وأنهى سبعة عشر عاماً من خنق الحريات على يد واحد من أسوأ أنظمة العالم الديكتاتورية.في عام 2002، سافر رجل تشيلي القوي، الحاكم الديكتاتور العجوز الذي بقي يتمتع بنفوذ هائل على الحياة السياسية في تشيلي إلى بريطانيا لإجراء فحوص طبية، وبينما كان هناك، أعتقل بتفويض قضائي أصدره القاضي الإسباني بالتاسار جارسون، وبقي قيد الإقامة الجبرية لأكثر من سنة، قبل أن يتم إطلاق سراحة لأسباب طبية، عاد إلى تشيلي، وترك مقعده كسيناتور، بعد قرار من المحكمة العليا بأنه يعاني من ((خرف وعائي)) لا يمكن معه أن يُحاكم لأفعاله، ثم في مايو 2004 حكمت محكمة تشيلي العُليا بناء على تصرفاته بإنه قادر على الصمود في محاكمة، وبدأت محاكمته في ديسمبر من العام نفسه لتهم تتعلق بحقوق الإنسان.
مؤيدو بينوشيه يفتخرون بتفاديه لما سُمي بداية الشيوعية في تشيلي، وقتال الجماعات الإرهابية الثورية مثل مير MIR، وتطبيق سياسات السوق الليبرالية الجديدة التي وضعت الأساس للنمو الاقتصادي السريع الذي استمر حتى الثمانينات.
أما معارضوه فيتهمونه بتحطيم ديموقراطية تشيلي، واتباع سياسية إرهاب الدولة المنظم التي قتلت وعذبت آلاف المعارضي، وتفضيل مصالح الفئة الثرية الحاكمة، بتبني سياسيات اقتصادية آذت ذوي الدخل المتدني، وخدمت النخبة الثرية.
الانقلاب العسكري
وصل الجنرال بينوشيه إلى السُلطة في انقلاب سبتمبر 1973، حين قصفت القوة الجوية التشيلية القصر الرئاسي في الحادي عشر من سبتمبر، بينما اقتحم القصر من قبل جنود المشاة والدبابات. رئيس تشيلي المنتخب سلفادور ألليندي رفض الاستسلام، وقُتل أثناء الاجتياح للقصر، ولمقتله روايتان متنازعتان، الأولى رسمية تُفيد بأنه انتحر بطلقات مسدس رشاش كتب على كعبه المذهب: (إلى صديقي الطيب سلفادور من فيديل كاسترو)، والأخرى يعتنقها مؤيدوا أليندي بقوة وبشكل موحد، تُفيد بقتله على أيدي الانقلابيين، وهناك نسخة أخرى من رواية القتل تصر على أنه قُتل في معركة على بعد خطوات من القصر الرئاسي.
تشريح جثة ألليندي في 1990 وافق حساب الانتحار.
الزُمرة الجديدة الحاكمة تكونت من:
الجنرال أوغستو بينوشيه عن الجيش.
الأدميرال خوسيه توريبيو ميرنو عن القوات البحرية.
الجنرال غوستافو لاي عن القوات الجوية.
و سيزار ميندوزا عن قوات الكارابينيروس (الشرطة العسكرية الموحدة).
و كان بينوشيه يرأس الفئة الأقدم والأكثر قوة، وغرضه من هذا التقسيم توزيع السلطة بينه وبين الزمرة، والإيحاء بأن المجلس العسكري شوروي، لكن الحقيقة هي أن هذه الزمرة سُرعان ما تورطت في أعمال غير مشروعة، وتحولت إلى حكومة اشتهرت عالمياً بانتهاكاتها الحادة لحقوق الإنسان، وبالتسبب بالكثير من (الاختفاءات)، ومنذ بدايته كسب بينوشيه عداء كُتاب أمريكا اللاتينية الأشهر كالحائز على نوبل الكولمبي غابرييل غارسيا ماركيز الذي كتب كتاباً عن نظامه أسماه (مهمة سرية في تشيلي)، واستلهم سيرته في روايته الشهيرة خريف البطريرك. وكذلك الروائية التشيلية الأعظم إيزابيل ألليندي التي استعادت انقلابه العسكري في روايتها (بيت الأرواح) وكتبت عن فظائع نظامه، بالإضافة إلى البيروفي ماريو فارغاس يوسا، وحتى الكاتب الإنجليزي الشهير غراهام غرين الذي كان من أكبر مُعاديه، وبإيجاز، كان بينوشيه ونظامه العدو الأكبر للصف الأول من المثقفين والأدباء العالميين. ولم يفعل هو ما من شأنه تخفيف هذا العداء بل إنه أمعن في تحويل تشيلي إلى سجن كبير.
في مذكراته، يقول بينوشيه أنه كان المسئول الأول عن الانقلاب، والمخطط له مستفيداً من مكانه كقائد للجيش، بينما يؤكد الآخرون بأن الانقلاب بدأته البحرية، وأنه كان متردداً ولم يحسم أمره حتى قبل أيام من الانقلاب الذي دبر بإملاء أمريكي.
و عندما امتلكت الزمرة العسكرية السلطة، دعم بينوشيه سلطته بإعلان نفسه زعيماً على الزمرة وعين نفسه (كابيتاين جنرال) أو النقيب جنرال، وهو لقب حمله الحكام الاستعماريون الإسبان لـ تشيلي سابقاً، وكذلك حمله برناردو أوهيغينز بطل حرب استقلال تشيلي وأول رئيس لها. ومن ثم في السابع والعشرين من يونيو عام 1974 أعلن نفسه رئيس تشيلي.
عارض قائد القوات الجوية الجنرال لاي سياسات بينوشيه بشكل متزايد فُطرد من الزمرة في الرابع والعشرين من يوليو 1978 واستبدل بالجنرال فرناندو ماتهي.
و خلال العامين 1977 و 1978 كانت تشيلي على شفير الحرب مع الأرجنتين – المحكومة أيضاً بنظام عسكري – على ملكية الجزر الاستراتيجية الثلاث (بيكتون، لينوكس، ونيوفا)، وقد تدخل أنتونيو ساموري مبعوث البابا يوحنا بولس الثاني كمبعوث لحل الأزمة، ونجح في مهمته لنزع فتيل حرب شاملة، وبتوقيع معاهدة الصداقة والسلام (تراتادو دي باز إي أميستاد) بين البلدين في 1984، والجزر محل التنازع تتبع تشيلي الآن.
سحق المعارضين
خلال سبعة عشر عاما كذلك كان التعذيب مستخدماً بكثرة في هذا العهد، للبطش بكل المعارضين، ويذكر تقرير "فاليك" أكثر من ثمانية وعشرين ألف حالة تعذيب.
سقوط نظام بينوشيه
في مايو 1983 بدأت المعارضة والحركات العمالية بتنظيم الإضرابات والعصيانات المدنية، وأثارت هذه الحركات ردود فعل عنيفة من قبل مسؤولي تشيلي الحكوميين. في 1986 اكتشفت قوات الأمن ثمانين طُناً من الأسلحة التي هُربت إلى البلاد بواسطة جبهة مانويل رودريغز الوطنية (FPMR)، الجناح العسكري للحزب الشيوعي المحظور، متضمنة قاذفات صواريخ، ومنصات إطلاقها، وبنادق إف 16، واشترك في تمويل الحركة كوبا مع ألمانيا الشرقية والإتحاد السوفيتي.
في سبتمبر من العام ذاته، استخدم بعض من هذه الأسلحة في محاولة فاشلة لاغتيال بينوشيه قامت بها جبهة مانويل رودريغز الوطنية، ورغم نجاة بينوشيه بجروح طفيفة، إلا أن خمسة من حراسه الشخصيين العسكريين قتلوا في المحاولة. قبل ذلك بأيام كان الديكتاتور قد توعد معارضيه بتصريح قال فيه: "نبقي عيوننا مفتوحة على بعض السادة." وتلت محاولة الاغتيال الفاشلة اغتيالات لمعارضي الديكتاتور.
أدى قطع رؤوس الشيوعيين الثلاثة: خوسيه مانويل بارادا، مانويل غويريرو، وسانتياغو ناتيني من قبل الشرطة العسكرية (الكارابينيروس) إلى استقالة الجنرال ميندوزا من الزمرة في 1985. و طبقاً لدستور 1980 الانتقالي، والذي صوت له 75% من الناخبين، نُظم استفتاء غير اعتيادي، وغير ديموقراطي لصالح بينوشيه كمرشح أوحد، غير أن المحكمة العُليا حكمت ببطلانه، ونظمت عملية الانتخاب والتصويت، وحددت أوقات الإعلانات التلفزيونية، المجانية والمشروطة بوقت وقواعد معينة. كنتيجة لقرار المحكمة نشرت المعارضة بقيادة ريكاردو لاغوس إعلانات مستبشرة وزاهية تحرض الناس على رفض بينوشيه، ووجد بينوشيه نفسه مُطالباً بالإجابة عن أسئلة تتعلق بالذين اختفوا، قُتلوا، أو عُذبوا. في الاستفتاء العام، ربح محامو (لا) التصويت بنسبة 55% مقابل 42% قالوا (تعم)، وبناء على نتائج الاستفتاء كان على بينوشيه أن يرحل عن السلطة، وحكمت المحكمة العليا بانتخابات الكونغرس في العام التالي، وتلتها الانتخابات الرئاسية العامة التي فاز بها باتريسيو إيلوين، وفي الحادي عشر من مارس 1990 ترك بينوشيه رئاسة الدولة.
و بناء على نصوص دستور 1980 الانتقالي، احتفظ بينوشيه بمنصبه كقائد للجيش، وأقسم اليمين كشيخ في الكونغرس وهو امتياز كان حقاً لجميع رؤساء تشيلي السابقين، مما أعطاه حصانة ضد المحاكمة، الحصانة التي سقطت باعتقاله في لندن. وتسببت في بدء محاكمته والتنقيب في حساباته في الخارج حيث اكتشفت حساباته في الولايات المتحدة بملايين الدولارات من أموال شعب تشيلي.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق